الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الشفا بتعريف حقوق المصطفى ***
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ اسْمُهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَالْعِلْمِ بِذَاتِهِ، وَأَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَجَمِيعِ تَكْلِيفَاتِهِ ابْتِدَاءً دُونَ وَاسِطَةٍ لَوْ شَاءَ، كَمَا حُكِيَ عَنْ سُنَّتِهِ فِي بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشُّورَى: 51]. وَجَائِزٌ أَنْ يُوصِلَ إِلَيْهِمْ جَمِيعَ ذَلِكَ بِوَاسِطَةٍ تُبَلِّغُهُمْ كَلَامَهُ، وَتَكُونُ تِلْكَ الْوَاسِطَةُ، إِمَّا مِنْ غَيْرِ الْبَشَرِ، كَالْمَلَائِكَةِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ , أَوْ مِنْ جِنْسِهِمْ، كَالْأَنْبِيَاءِ مَعَ الْأُمَمِ، وَلَا مَانِعَ لِهَذَا مِنْ دَلِيلِ الْعَقْلِ. وَإِذَا جَازَ هَذَا وَلَمْ يَسْتَحِلْ، وَجَاءَتِ الرُّسُلُ بِمَا دَلَّ عَلَى صِدْقِهِمْ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ، وَجَبَ تَصْدِيقُهُمْ فِي جَمِيعِ مَا أَتَوْا بِهِ، لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ مَعَ التَّحَدِّي مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ مَقَامَ قَوْلِ اللَّهِ: صَدَقَ عَبْدِي فَأَطِيعُوهُ، وَاتَّبِعُوهُ، وَشَاهِدٌ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يَقُولُهُ، وَهَذَا كَافٍ. وَالتَّطْوِيلُ فِيهِ خَارِجٌ عَنِ الْغَرَضِ، فَمَنْ أَرَادَ تَتَبُّعَهُ وَجَدَهُ مُسْتَوْفًى فِي مُصَنَّفَاتِ أَئِمَّتِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ. فَالنُّبُوَّةُ فِي لُغَةِ مَنْ هَمَزَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّبَأِ، وَهُوَ الْخَبَرُ، وَقَدْ لَا تُهْمَزُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَسْهِيلًا. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَعَهُ عَلَى غَيْبِهِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ نَبِيُّهُ، فَيَكُونُ نَبِيٌّ مُنَبَّأً فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَوْ يَكُونُ مُخْبِرًا عَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَمُنَبِّئًا بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَيَكُونُ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَهْمِزْهُ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ رُتْبَةً شَرِيفَةً، وَمَكَانَةً نَبِيهَةً عِنْدَ مَوْلَاهُ مَنِيفَةً، فَالْوَصْفَانِ فِي حَقِّهِ مُؤْتَلِفَانِ. وَأَمَّا الرَّسُولُ فَهُوَ الْمُرْسَلُ، وَلَمْ يَأْتِ فَعُولٌ بِمَعْنَى مُفْعَلٍ فِي اللُّغَةِ إِلَّا نَادِرًا، وَإِرْسَالُهُ: أَمْرُ اللَّهِ لَهُ بِالْإِبْلَاغِ إِلَى مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ التَّتَابُعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: جَاءَ النَّاسُ أَرْسَالًا، إِذَا اتَّبَعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَكَأَنَّهُ أُلْزِمَ تَكْرِيرَ التَّبْلِيغِ، أَوْ أُلْزِمَتِ الْأُمَّةُ اتِّبَاعَهُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلِ النَّبِيُّ، وَالرَّسُولُ بِمَعْنًى، أَوْ بِمَعْنَيَيْنِ؟ فَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْإِنْبَاءِ، وَهُوَ الْإِعْلَامُ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الْحَجِّ: 52]، فَقَدْ أَثْبَتَ لَهُمَا مَعًا الْإِرْسَالَ، قَالَ: وَلَا يَكُونُ النَّبِيُّ إِلَّا رَسُولًا، وَلَا الرَّسُولُ إِلَّا نَبِيًّا. وَقِيلَ: هُمَا مُفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ، إِذْ قَدِ اجْتَمَعَا فِي النُّبُوَّةِ الَّتِي هِيَ الِاطِّلَاعُ عَلَى الْغَيْبِ، وَالْإِعْلَامُ بِخَوَاصِّ النُّبُوَّةِ، أَوِ الرِّفْعَةِ لِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَحَوْزِ دَرَجَتِهَا، وَافْتَرَقَا فِي زِيَادَةِ الرِّسَالَةِ لِلرَّسُولِ، هُوَ الْأَمْرُ بِالْإِنْذَارِ، وَالْإِعْلَامِ كَمَا قُلْنَا. وَحُجَّتُهُمْ مِنَ الْآيَةِ نَفْسِهَا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ، وَلَوْ كَانَا شَيْئًا وَاحِدًا لَمَا حَسُنَ تَكْرَارُهُمَا فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، قَالُوا: وَالْمَعْنَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَى أُمَّةٍ أَوْ نَبِيٍّ وَلَيْسَ بِمُرْسَلٍ إِلَى أَحَدٍ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ مَنْ جَاءَ بِشَرْعٍ مُبْتَدَأٍ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ نَبِيٌّ غَيْرُ رَسُولٍ، وَإِنْ أُمِرَ بِالْإِبْلَاغِ، وَالْإِنْذَارِ. وَالصَّحِيحُ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَّاءُ الْغَفِيرُ، أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا. وَأَوَّلُ الرُّسُلِ آدَمُ، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مِائَةُ أَلْفٍ، وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ نَبِيٍّ». وَذَكَرَ أَنَّ الرُّسُلَ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، أَوَّلُهُمْ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَقَدْ بَانَ لَكَ مَعْنَى النُّبُوَّةِ، وَالرِّسَالَةِ، وَلَيْسَتَا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ ذَاتًا لِلنَّبِيِّ، وَلَا وَصْفَ ذَاتٍ، خِلَافًا لِلْكَرَّامِيَّةِ فِي تَطْوِيلٍ لَهُمْ وَتَهْوِيلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ تَعْوِيلٌ. وَأَمَّا الْوَحْيُ فَأَصْلُهُ الْإِسْرَاعُ، فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ يَتَلَقَّى مَا يَأْتِيهِ مِنْ رَبِّهِ بِعَجَلٍ سُمِّيَ وَحْيًا، وَسُمِّيَتْ أَنْوَاعُ الْإِلْهَامَاتِ وَحْيًا، تَشْبِيهًا بِالْوَحْيِ إِلَى النَّبِيِّ، وَسُمِّيَ الْخَطُّ وَحْيًا لِسُرْعَةِ حَرَكَةِ يَدِ كَاتِبِهِ، وَوَحْيُ الْحَاجِبِ وَاللَّحْظِ سُرْعَةُ إِشَارَتِهِمَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مَرْيَمَ: 11]، أَيْ أَوْمَأَ، وَرَمَزَ، وَقِيلَ: كَتَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: الْوَحَا الْوَحَا، أَيِ السُّرْعَةَ السُّرْعَةَ. وَقِيلَ أَصْلُ الْوَحْيِ السِّرُّ وَالْإِخْفَاءُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْإِلْهَامُ وَحْيًا، وَمِنْهُ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الْأَنْعَامِ: 121]، أَيْ يُوَسْوِسُونَ فِي صُدُورِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} [الْقَصَصِ: 7]، أَيْ أُلْقِيَ فِي قَلْبِهَا. وَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشُّورَى: 51]، أَيْ مَا يُلْقِيهِ فِي قَلْبِهِ دُونَ وَاسِطَةٍ.
اعْلَمْ أَنَّ تَسْمِيَتَنَا مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مُعْجِزَةً، هُوَ أَنَّ الْخَلْقَ عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا، وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ هُوَ مِنْ نَوْعِ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، فَعَجَزُوا عَنْهُ، فَتَعْجِيزُهُمْ عَنْهُ فِعْلٌ لِلَّهِ دَلَّ عَلَى صِدْقِ نَبِيِّهِ، كَصَرْفِهِمْ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ. وَتَعْجِيزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ عَلَى رَأْيِ بَعْضِهِمْ، وَنَحْوِهِ. وَضَرْبٌ هُوَ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً، وَإِخْرَاجِ نَاقَةٍ مِنْ صَخْرَةٍ، وَكَلَامِ شَجَرَةٍ، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنَ الْأَصَابِعِ، وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَهُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، فَكَوْنُ ذَلِكَ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَحَدِّيهِ مَنْ يُكَذِّبُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ تَعْجِيزٌ لَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلَائِلَ نَبُّوَّتِهِ، وَبَرَاهِينَ صِدْقِهِ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مَعًا، وَهُوَ أَكْثَرُ الرُّسُلِ مُعْجِزَةً، وَأَبْهَرُهُمْ آيَةً، وَأَظْهَرُهُمْ بُرْهَانًا، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، وَهِيَ فِي كَثْرَتِهَا لَا يُحِيطُ بِهَا ضَبْطٌ، فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْهَا، وَهُوَ الْقُرْآنُ لَا يُحْصَى عَدَدُ مُعْجِزَاتِهِ بِأَلْفٍ، وَلَا أَلْفَيْنِ، وَلَا أَكْثَرَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَحَدَّى بِسُورَةٍ مِنْهُ فَعُجِزَ عَنْهَا. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: وَأَقْصَرُ السُّوَرِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الْكَوْثَرِ: 1]. فَكُلُّ آيَةٍ، أَوْ آيَاتٍ مِنْهُ بِعَدَدِهَا، وَقَدْرِهَا مُعْجِزَةٌ، ثُمَّ فِيهَا نَفْسِهَا مُعْجِزَاتٌ عَلَى مَا سَنُفَصِّلُهُ فِيمَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ. ثُمَّ مُعْجِزَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ مِنْهَا عُلِمَ قَطْعًا، وَنُقِلَ إِلَيْنَا مُتَوَاتِرًا كَالْقُرْآنِ فَلَا مِرْيَةَ، وَلَا خِلَافَ بِمَجِيءِ النَّبِيِّ بِهِ، وَظُهُورِهِ مِنْ قِبَلِهِ، وَاسْتِدْلَالِهِ بِحُجَّتِهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ هَذَا مُعَانِدٌ جَاحِدٌ، فَهُوَ كَإِنْكَارِهِ وُجُودَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا. وَإِنَّمَا جَاءَ اعْتِرَاضُ الْجَاحِدِينَ فِي الْحُجَّةِ بِهِ، فَهُوَ فِي نَفْسِهِ، وَجَمِيعِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ مُعْجِزٍ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً. وَوَجْهُ إِعْجَازِهِ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً، وَنَظَرًا، كَمَا سَنَشْرَحُهُ. قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا: وَيَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّهُ قَدْ جَرَى عَلَى يَدَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَاتٌ، وَخَوَارِقُ عَادَاتٍ إِنْ لَمْ يَبْلُغْ وَاحِدٌ مِنْهَا مُعَيَّنًا الْقَطْعَ فَيَبْلُغُهُ جَمِيعُهَا، فَلَا مِرْيَةَ فِي جَرَيَانِ مَعَانِيهَا عَلَى يَدَيْهِ، وَلَا يَخْتَلِفُ مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ أَنَّهُ جَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ عَجَائِبُ، وَإِنَّمَا خِلَافُ الْمُعَانِدِ فِي كَوْنِهَا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا كَوْنَهَا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، وَإِنَّ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ: صَدَقْتَ. فَقَدْ عُلِمَ وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا أَيْضًا مِنْ نَبِيِّنَا ضَرُورَةً لِاتِّفَاقِ مَعَانِيهَا، كَمَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً جُودُ حَاتِمٍ، وَشَجَاعَةُ عَنْتَرَةَ، وَحِلْمُ أَحْنَفَ، لِاتِّفَاقِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى كَرَمِ هَذَا، وَشَجَاعَةِ هَذَا، وَحِلْمِ هَذَا، وَإِنْ كَانَ كُلُّ خَبَرٍ بِنَفْسِهِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَلَا يَقْطَعُ بِصِحَّتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الضَّرُورَةِ، وَالْقَطْعِ، وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ مُشْتَهِرٌ مُنْتَشِرٌ، رَوَاهُ الْعَدَدُ، وَشَاعَ الْخَبَرُ بِهِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَالرُّوَاةِ، وَنَقَلَةِ السِّيَرِ، وَالْأَخْبَارِ، كَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ، وَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ. وَنَوْعٌ مِنْهُ اخْتُصَّ بِهِ الْوَاحِدُ، وَالِاثْنَانِ، وَرَوَاهُ الْعَدَدُ الْيَسِيرُ، وَلَمْ يَشْتَهِرِ اشْتِهَارَ غَيْرِهِ، لَكِنَّهُ إِذَا جُمِعَ إِلَى مِثْلِهِ اتَّفَقَا فِي الْمَعْنَى، وَاجْتَمَعَا عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْمُعْجِزِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ : وَأَنَا أَقُولُ صَدْعًا بِالْحَقِّ: إِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْلُومَةٌ بِالْقَطْعِ. أَمَّا انْشِقَاقُ الْقَمَرِ فَالْقُرْآنُ نَصَّ بِوُقُوعِهِ، وَأَخْبَرَ عَنْ وُجُودِهِ، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ ظَاهِرٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَجَاءَ بِرَفْعِ احْتِمَالِهِ صَحِيحُ الْأَخْبَارِ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، وَلَا يُوهِنُ عَزْمَنَا خِلَافُ أَخْرَقَ مُنْحَلِّ عُرَى الدِّينِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى سَخَافَةِ مُبْتَدِعٍ يُلْقِي الشَّكَّ عَلَى قُلُوبِ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ يُرْغَمُ بِهَذَا أَنْفُهُ، وَنَنْبِذُ بِالْعَرَاءِ سُخْفَهُ. وَكَذَلِكَ قِصَّةُ نَبْعِ الْمَاءِ، وَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ رَوَاهَا الثِّقَاتُ، وَالْعَدَدُ الْكَثِيرُ عَنِ الْجَمَّاءِ الْغَفِيرِ، عَنِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْكَافَّةُ عَنِ الْكَافَّةِ مُتَّصِلًا عَمَّنْ حَدَّثَ بِهَا مِنْ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ، وَأَخْيَارِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مَوْطِنِ اجْتِمَاعِ الْكَثِيرِ مِنْهُمْ فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ، وَفِي غَزْوَةِ بُوَاطٍ، وَعُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَغَزْوَةِ تَبُوكَ، وَأَمْثَالِهَا مِنْ مَحَافِلِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَجْمَعِ الْعَسَاكِرِ، وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالَفَةٌ لِلرَّاوِي فِيمَا حَكَاهُ، وَلَا إِنْكَارٌ لِمَا ذُكِرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ رَأَوْهُ كَمَا رَآهُ، فَسُكُوتُ السَّاكِتِ مِنْهُمْ كَنُطْقِ النَّاطِقِ، إِذْ هُمُ الْمُنَزَّهُونَ عَنِ السُّكُوتِ عَلَى بَاطِلٍ، وَالْمُدَاهَنَةِ فِي كَذِبٍ، وَلَيْسَ هُنَاكَ رَغْبَةٌ، وَلَا رَهْبَةٌ تَمْنَعُهُمْ، وَلَوْ كَانَ مَا سَمِعُوهُ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ، وَغَيْرَ مَعْرُوفٍ لَدَيْهِمْ لَأَنْكَرُوهُ، كَمَا أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أَشْيَاءَ رَوَاهَا مِنَ السُّنَنِ، وَالسِّيَرِ، وَحُرُوفِ الْقُرْآنِ. وَخَطَّأَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَوَهَّمَهُ فِي ذَلِكَ، مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ، فَهَذَا النَّوْعُ كُلُّهُ يَلْحَقُ بِالْقَطْعِيِّ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ لِمَا بَيَّنَّاهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ أَمْثَالَ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا، وَبُنِيَتْ عَلَى بَاطِلٍ، لَا بُدَّ بَعْدَ مُرُورِ الْأَزْمَانِ وَتَدَاوُلِ النَّاسِ، وَأَهْلِ الْبَحْثِ مِنِ انْكِشَافِ ضَعْفِهَا، وَخُمُولِ ذِكْرِهَا، كَمَا يُشَاهَدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ، وَالْأَرَاجِيفِ الطَّارِئَةِ. وَأَعْلَامُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْوَارِدَةُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ لَا تَزْدَادُ مَعَ مُرُورِ الزَّمَانِ إِلَّا ظُهُورًا، وَمَعَ تَدَاوُلِ الْفِرَقِ، وَكَثْرَةِ طَعْنِ الْعَدُوِّ، وَحِرْصِهِ عَلَى تَوْهِينِهَا، وَتَضْعِيفِ أَصْلِهَا، وَاجْتِهَادِ الْمُلْحِدِ عَلَى إِطْفَاءِ نُورِهَا إِلَّا قُوَّةً، وَقَبُولًا، وَلِلطَّاعِنِينَ عَلَيْهَا إِلَّا حَسْرَةً، وَغَلِيلًا. وَكَذَلِكَ إِخْبَارُهُ عَنِ الْغُيُوبِ، وَإِنْبَاؤُهُ بِمَا يَكُونُ وَكَانَ مَعْلُومٌ مِنْ آيَاتِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ بِالضَّرُورَةِ. وَهَذَا حَقٌّ لَا غِطَاءَ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ بِهِ مِنْ أَئِمَّتِنَا الْقَاضِي، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ، وَغَيْرُهُمَا، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَمَا عِنْدِي أَوْجَبَ قَوْلَ الْقَائِلِ: إِنَّ هَذِهِ الْقِصَصَ الْمَشْهُورَةَ مِنْ بَابِ خَبَرِ الْوَاحِدِ إِلَّا قِلَّةُ مُطَالَعَتِهِ لِلْأَخْبَارِ، وَرِوَايَتِهَا، وَشُغْلُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَارِفِ، وَإِلَّا فَمَنِ اعْتَنَى بِطُرُقِ النَّقْلِ، وَطَالَعَ الْأَحَادِيثَ، وَالسِّيَرَ لَمْ يَرْتَبْ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الْقِصَصِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِالتَّوَاتُرِ عِنْدَ وَاحِدٍ، وَلَا يَحْصُلُ عِنْدَ آخَرَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَعْلَمُونَ بِالْخَبَرِ كَوْنَ بَغْدَادَ مَوْجُودَةً، وَأَنَّهَا مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ، وَدَارُ الْإِمَامَةِ، وَالْخِلَافَةِ، وَآحَادٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ اسْمَهَا، فَضْلًا عَنْ وَصْفِهَا، وَهَكَذَا يَعْلَمُ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ بِالضَّرُورَةِ، وَتَوَاتُرِ النَّقْلِ عَنْهُ أَنَّ مَذْهَبَهُ إِيجَابُ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ لِلْمُنْفَرِدِ، وَالْإِمَامِ، وَإِجْزَاءُ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ عَمَّا سِوَاهُ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ يَرَى تَجْدِيدَ النِّيَّةِ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَالِاقْتِصَارَ فِي الْمَسْحِ عَلَى بَعْضِ الرَّأْسِ، وَإِنَّ مَذْهَبَهُمَا الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ، وَغَيْرِهِ، وَإِيجَابُ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ، وَاشْتِرَاطُ الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ وَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُخَالِفُهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِمَذَاهِبِهِمْ، وَلَا رَوَى أَقْوَالَهُمْ لَا يَعْرِفُ هَذَا مِنْ مَذَاهِبِهِمْ فَضْلًا عَمَّنْ سِوَاهُ. وَعِنْدَ ذِكْرِنَا آحَادَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ نَزِيدُ الْكَلَامَ فِيهَا بَيَانًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
اعْلَمْ- وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ- أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ الْعَزِيزَ مُنْطَوٍ عَلَى وُجُوهٍ مِنَ الْإِعْجَازِ كَثِيرَةٍ، وَتَحْصِيلَهَا مِنْ جِهَةِ ضَبْطِ أَنْوَاعِهَا فِي أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: حُسْنُ تَأْلِيفِهِ، وَالْتِئَامُ كَلِمِهِ، وَفَصَاحَتُهُ، وَوُجُوهُ إِيجَازِهِ، وَبَلَاغَتُهُ الْخَارِقَةُ عَادَةَ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَابَ هَذَا الشَّأْنِ، وَفُرْسَانَ الْكَلَامِ، قَدْ خُصُّوا مِنَ الْبَلَاغَةِ، وَالْحِكَمِ بِمَا لَمْ يُخَصَّ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَأُوتُوا مِنْ ذَرَابَةِ اللِّسَانِ مَا لَمْ يُؤْتَ إِنْسَانٌ وَمِنْ فَصْلِ الْخِطَابِ مَا يُقَيِّدُ الْأَلْبَابَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ طَبْعًا، وَخِلْقَةً، وَفِيهِمْ غَرِيزَةً، وَقُوَّةً، يَأْتُونَ مِنْهُ عَلَى الْبَدِيهَةِ بِالْعَجَبِ، وَيُدْلُونَ بِهِ إِلَى كُلِّ سَبَبٍ، فَيَخْطُبُونَ بَدِيهًا فِي الْمَقَامَاتِ، وَشَدِيدِ الْخُطَبِ، وَيَرْتَجِزُونَ بِهِ بَيْنَ الطَّعْنِ، وَالضَّرْبِ، وَيَمْدَحُونَ، وَيَقْدَحُونَ، وَيَتَوَسَّلُونَ، وَيَتَوَصَّلُونَ، وَيَرْفَعُونَ، وَيَضَعُونَ، فَيَأْتُونَ مِنْ ذَلِكَ بِالسِّحْرِ الْحَلَالِ، وَيُطَوِّقُونَ مِنْ أَوْصَافِهِمْ أَجْمَلَ مِنْ سُمْطِ اللَّآلِ، فَيَخْدَعُونَ الْأَلْبَابَ، وَيُذَلِّلُونَ الصِّعَابَ، وَيُذْهِبُونَ الْإِحَنَ، وَيُهَيِّجُونَ الدِّمَنَ، وَيُجَرِّئُونَ الْجَبَانَ وَيَبْسُطُونَ يَدَ الْجَعْدِ الْبَنَانِ وَيُصَيِّرُونَ النَّاقِصَ كَامِلًا، وَيَتْرُكُونَ النَّبِيهَ خَامِلًا. مِنْهُمُ الْبَدَوِيُّ ذُو اللَّفْظِ الْجَزْلِ، وَالْقَوْلِ الْفَصْلِ، وَالْكَلَامِ الْفَخْمِ، وَالطَّبْعِ الْجَوْهَرِيِّ، وَالْمَنْزَعِ الْقَوِيِّ. وَمِنْهُمُ الْحَضَرِيُّ ذُو الْبَلَاغَةِ الْبَارِعَةِ، وَالْأَلْفَاظِ النَّاصِعَةِ، وَالْكَلِمَاتِ الْجَامِعَةِ، وَالطَّبْعِ السَّهْلِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي الْقَوْلِ الْقَلِيلِ الْكُلْفَةِ، الْكَثِيرِ الرَّوْنَقِ، الرَّقِيقِ الْحَاشِيَةِ. وَكِلَا الْبَابَيْنِ لَهُمَا فِي الْبَلَاغَةِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَالْقُوَّةُ الدَّامِغَةُ، وَالْقِدْحُ الْفَالِجُ، وَالْمَهْيَعُ النَّاهِجُ، لَا يَشُكُّونَ أَنَّ الْكَلَامَ طَوْعُ مُرَادِهِمْ، وَالْبَلَاغَةَ مِلْكُ قِيَادِهِمْ، قَدْ حَوَوْا فُنُونَهَا، وَاسْتَنْبَطُوا عُيُونَهَا، وَدَخَلُوا مِنْ كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَعَلَوْا صَرْحًا لِبُلُوغِ أَسْبَابِهَا، فَقَالُوا فِي الْخَطِيرِ وَالْمَهِينِ، وَتَفَنَّنُوا فِي الْغَثِّ وَالسَّمِينِ، وَتَقَاوَلُوا فِي الْقُلِّ وَالْكُثْرِ، وَتَسَاجَلُوا فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، فَمَا رَاعَهُمْ إِلَّا رَسُولٌ كَرِيمٌ، بِكِتَابٍ عَزِيزٍ {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فُصِّلَتْ: 42] أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ وَفُصِّلَتْ كَلِمَاتُهُ، وَبَهَرَتْ بَلَاغَتُهُ الْعُقُولَ، وَظَهَرَتْ فَصَاحَتُهُ عَلَى كُلِّ مَقُولٍ، وَتَظَافَرَ إِيجَازُهُ، وَإِعْجَازُهُ، وَتَظَاهَرَتْ حَقِيقَتُهُ، وَمَجَازُهُ، وَتَبَارَتْ فِي الْحُسْنِ مَطَالِعُهُ، وَمَقَاطِعُهُ، وَحَوَتْ كُلَّ الْبَيَانِ جَوَامِعُهُ، وَبَدَائِعُهُ، وَاعْتَدَلَ مَعَ إِيجَازِهِ حُسْنُ نَظْمِهِ، وَانْطَبَقَ عَلَى كَثْرَةِ فَوَائِدِهِ مُخْتَارُ لَفْظِهِ، وَهُمْ أَفْسَحُ مَا كَانُوا فِي هَذَا الْبَابِ مَجَالًا، وَأَشْهَرُ فِي الْخَطَابَةِ رِجَالًا، وَأَكْثَرُ فِي السَّجْعِ، وَالشِّعْرِ سِجَالًا، وَأَوْسَعُ فِي الْغَرِيبِ وَاللُّغَةِ مَقَالًا، بِلُغَتِهِمُ الَّتِي بِهَا يَتَحَاوَرُونَ، وَمَنَازِعِهِمُ الَّتِي عَنْهَا يَتَفَاضَلُونَ، صَارِخًا بِهِمْ فِي كُلٍّ حِينٍ، وَمُقَرِّعًا لَهُمْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ عَامًا عَلَى رُءُوسِ الْمَلَإِ أَجْمَعِينَ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يُونُسَ: 38]. {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [الْبَقَرَةِ: 23]- إِلَى قَوْلِهِ-: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} [الْبَقَرَةِ: 24]. وَ {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ} [الْإِسْرَاءِ: 88] الْآيَةَ. وَ {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هُودٍ: 13]. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُفْتَرَى أَسْهَلُ، وَوَضْعَ الْبَاطِلِ وَالْمُخْتَلَقِ عَلَى الِاخْتِيَارِ أَقْرَبُ، وَاللَّفْظُ إِذَا تَبِعَ الْمَعْنَى الصَّحِيحَ كَانَ أَصْعَبَ، وَلِهَذَا قِيلَ: فُلَانٌ يَكْتُبُ كَمَا يُقَالُ لَهُ، وَفُلَانٌ يَكْتُبُ كَمَا يُرِيدُ. وَلِلْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي فَضْلٌ، وَبَيْنَهُمَا شَأْوٌ بَعِيدٌ. فَلَمْ يَزَلْ يُقَرِّعُهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ التَّقْرِيعِ، وَيُوَبِّخُهُمْ غَايَةَ التَّوْبِيخِ، وَيُسَفِّهُ أَحْلَامَهُمْ، وَيَحُطُّ أَعْلَامَهُمْ، وَيُشَتِّتُ نِظَامَهُمْ، وَيَذُمُّ آلِهَتَهُمْ، وَآبَاءَهُمْ، وَيَسْتَبِيحُ أَرْضَهُمْ، وَدِيَارَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ، وَهُمْ فِي كُلِّ هَذَا نَاكِصُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، مُحْجِمُونَ عَنْ مُمَاثَلَتِهِ، يُخَادِعُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالتَّشْغِيبِ، وَالتَّكْذِيبِ، وَالْإِغْرَاءِ بِالِافْتِرَاءِ، وَقَوْلِهِمْ: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} وَ {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} وَ {إِفْكٌ افْتَرَاهُ} وَ {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}. وَالْمُبَاهَتَةِ، وَالرِّضَا بِالدَّنِيئَةِ، كَقَوْلِهِمْ: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} وَ{فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فُصِّلَتْ: 5]. وَ{لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فُصِّلَتْ: 26]. وَالِادِّعَاءِ مَعَ الْعَجْزِ بِقَوْلِهِمْ: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الْأَنْفَالِ: 31]. وَقَدْ قَالَ لَهُمُ اللَّهُ: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} فَمَا فَعَلُوا، وَلَا قَدَرُوا. وَمَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ مِنْ سُخَفَائِهِمْ كَمُسَيْلِمَةَ كُشِفَ عَوَارُهُ لِجَمِيعِهِمْ، وَسَلَبَهُمُ اللَّهُ مَا أَلْفَوْهُ مِنْ فَصِيحِ كَلَامِهِمْ، وَإِلَّا فَلَمْ يَخْفَ عَلَى أَهْلِ الْمَيْزِ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَمَطِ فَصَاحَتِهِمْ، وَلَا جِنْسِ بَلَاغَتِهِمْ، بَلْ وَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ، وَأَتَوْا مُذْعِنِينَ مِنْ بَيْنِ مُهْتَدٍ، وَبَيْنِ مَفْتُونٍ. وَلِهَذَا لَمَّا سَمِعَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النَّحْلِ: 90] الْآيَةَ. قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لِحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لِمُغْدِقٌ، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لِمُثْمِرٌ، مَا يَقُولُ هَذَا بَشَرٌ. وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الْحِجْرِ: 94] فَسَجَدَ، وَقَالَ: سَجَدْتُ لِفَصَاحَتِهِ. وَسَمِعَ آخَرُ رَجُلًا يَقْرَأُ: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يُوسُفَ: 80]. فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مَخْلُوقًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ. وَحُكِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ يَوْمًا نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ بِقَائِمٍ عَلَى رَأْسِهِ يَتَشَهَّدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، فَاسْتَخْبَرَهُ، فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ مِنْ بَطَارِقَةِ الرُّومِ مِمَّنْ يُحْسِنُ كَلَامَ الْعَرَبِ، وَغَيْرِهَا، وَأَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ يَقْرَأُ آيَةً مِنْ كِتَابِكُمْ فَتَأَمَّلْتُهَا، فَإِذَا قَدْ جُمِعَ فِيهَا مَا أُنْزِلَ عَلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} [النُّورِ: 52] الْآيَةَ. وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ كَلَامَ جَارِيَةٍ، فَقَالَ لَهَا: قَاتَلَكِ اللَّهُ مَا أَفْصَحَكِ! فَقَالَتْ: أَوَيُعَدُّ هَذَا فَصَاحَةً بَعْدَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [الْقَصَصِ: 7]، فَجَمَعَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، وَنَهْيَيْنِ، وَخَبَرَيْنِ، وَبِشَارَتَيْنِ. فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ إِعْجَازِهِ مُنْفَرِدٌ بِذَاتِهِ، غَيْرُ مُضَافٍ إِلَى غَيْرِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَالصَّحِيحِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ. وَكَوْنُ الْقُرْآنِ مِنْ قِبَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ أَتَى بِهِ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً، وَكَوْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَحَدِّيًا بِهِ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً، وَعَجْزُ الْعَرَبِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً، وَكَوْنُهُ فِي فَصَاحَتِهِ خَارِقًا لِلْعَادَةِ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً لِلْعَالِمِينَ بِالْفَصَاحَةِ، وَوُجُوهِ الْبَلَاغَةِ، وَسَبِيلُ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا عُلِمَ ذَلِكَ بِعَجْزِ الْمُنْكِرِينَ مِنْ أَهْلِهَا عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَاعْتِرَافِ الْمُقِرِّينَ بِإِعْجَازِ بَلَاغَتِهِ. وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [الْبَقَرَةِ: 179]. وَقَوْلَهُ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [سَبَإٍ: 51]. وَقَوْلَهُ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [فُصِّلَتْ: 34] الْآيَةَ. وَقَوْلَهُ: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} [هُودٍ: 44] الْآيَةَ. وَقَوْلَهُ: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} [الْعَنْكَبُوتِ: 40] الْآيَةَ. وَأَشْبَاهَهَا مِنَ الْآيِ، بَلْ أَكْثَرُ الْقُرْآنِ حَقَّقَتْ مَا بَيَّنْتُهُ مِنْ إِيجَازِ أَلْفَاظِهَا، وَكَثْرَةِ مَعَانِيهَا، وَدِيبَاجَةِ عِبَارَتِهَا، وَحُسْنِ تَأْلِيفِ حُرُوفِهَا، وَتَلَاؤُمِ كَلِمِهَا، وَأَنَّ تَحْتَ كُلِّ لَفْظَةٍ مِنْهَا جُمَلًا كَثِيرَةً، وَفُصُولًا جَمَّةً، وَعُلُومًا زَوَاخِرَ، مُلِئَتِ الدَّوَاوِينُ مِنْ بَعْضِ مَا اسْتُفِيدَ مِنْهَا، وَكَثُرَتِ الْمَقَالَاتُ فِي الْمُسْتَنْبَطَاتِ عَنْهَا. ثُمَّ هُوَ فِي سَرْدِهِ الْقِصَصَ الطِّوَالَ، وَأَخْبَارَ الْقُرُونِ السَّوَالِفِ الَّتِي يَضْعُفُ فِي عَادَةِ الْفُصَحَاءِ عِنْدَهَا الْكَلَامُ، وَيَذْهَبُ مَاءُ الْبَيَانِ آيَةٌ لِمُتَأَمِّلِهِ، مِنْ رَبْطِ الْكَلَامِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَالْتِئَامِ سَرْدِهِ، وَتَنَاصُفِ وُجُوهِهِ، كَقِصَّةِ يُوسُفَ عَلَى طُولِهَا. ثُمَّ إِذَا تَرَدَّدَتْ قِصَصُهُ اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَاتُ عَنْهَا عَلَى كَثْرَةِ تَرَدُّدِهَا حَتَّى تَكَادَ كُلُّ وَاحِدَةٍ تُنْسِي فِي الْبَيَانِ صَاحِبَتَهَا، وَتُنَاصِفُ فِي الْحُسْنِ وَجْهَ مُقَابِلَتِهَا، وَلَا نُفُورَ لِلنُّفُوسِ مِنْ تَرْدِيدِهَا، وَلَا مُعَادَاةَ لِمَعَادِهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ إِعْجَازِهِ صُورَةُ نَظْمِهِ الْعَجِيبِ، وَالْأُسْلُوبُ الْغَرِيبُ الْمُخَالِفُ لِأَسَالِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمَنَاهِجِ نَظْمِهَا، وَنَثْرِهَا الَّذِي جَاءَ عَلَيْهِ، وَوَقَفَتْ مَقَاطِعُ آيِهِ، وَانْتَهَتْ فَوَاصِلُ كَلِمَاتِهِ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ قَبْلَهُ، وَلَا بَعْدَهُ نَظِيرٌ لَهُ، وَلَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ مُمَاثَلَةَ شَيْءٍ مِنْهُ، بَلْ حَارَتْ فِيهِ عُقُولُهُمْ، وَتَدَلَّهَتْ دُونَهُ أَحْلَامُهُمْ، وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى مِثْلِهِ فِي جِنْسِ كَلَامِهِمْ مِنْ نَثْرٍ، أَوْ نَظْمٍ، أَوْ سَجْعٍ، أَوْ رَجَزٍ، أَوْ شِعْرٍ. وَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ رَقَّ، فَجَاءَهُ أَبُو جَهْلٍ مُنْكِرًا عَلَيْهِ قَالَ: وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا. وَفِي خَبَرِهِ الْآخَرِ حِينَ جَمَعَ قُرَيْشَ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْسِمِ، وَقَالَ: إِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ تَرِدُ فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا، لَا يُكَذِّبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَقَالُوا: نَقُولُ كَاهِنٌ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ. مَا هُوَ بِزَمْزَمَتِهِ، وَلَا سَجْعِهِ. قَالُوا: مَجْنُونٌ: قَالَ: مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ، وَلَا بِخَنْقِهِ، وَلَا وَسْوَسَتِهِ. قَالُوا: فَنَقُولُ شَاعِرٌ. قَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرٍ. قَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ كُلَّهُ، رَجَزَهُ، وَهَزَجَهُ، وَقَرِيضَهُ، وَمَبْسُوطَهُ، وَمَقْبُوضَهُ، مَا هُوَ بِشَاعِرٍ. قَالُوا: فَنَقُولُ سَاحِرٌ. قَالَ: مَا هُوَ بِسَاحِرٍ، وَلَا نَفْثِهِ، وَلَا عَقْدِهِ. قَالُوا: فَمَا نَقُولُ؟ قَالَ: مَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا، إِلَّا وَأَنَا أَعْرِفُ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ أَنَّهُ سَاحِرٌ، فَإِنَّهُ سِحْرٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ، وَابْنِهِ، وَالْمَرْءِ، وَأَخِيهِ، وَالْمَرْءِ، وَزَوْجِهِ، وَالْمَرْءِ، وَعَشِيرَتِهِ. فَتَفَرَّقُوا، وَجَلَسُوا عَلَى السُّبُلِ يُحَذِّرُونَ النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْوَلِيدِ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [الْمُدَّثِّرِ: 11] الْآيَاتِ. وَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ حِينَ سَمِعَ الْقُرْآنَ: يَا قَوْمُ، قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَمْ أَتْرُكْ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ عَلِمْتُهُ، وَقَرَأْتُهُ، وَقُلْتُهُ، وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا، وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، مَا هُوَ بِالشِّعْرِ، وَلَا بِالسِّحْرِ، وَلَا بِالْكِهَانَةِ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ نَحْوَهُ. وَفِي حَدِيثِ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ، وَوَصَفَ أَخَاهُ أُنَيْسًا، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ بِأَشْعَرَ مِنْ أَخِي أُنَيْسٍ، لَقَدْ نَاقَضَ اثْنَيْ عَشَرَ شَاعِرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَنَا أَحَدُهُمْ، وَإِنَّهُ انْطَلَقَ إِلَى مَكَّةَ، وَجَاءَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ بِخَبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: فَمَا يَقُولُ النَّاسُ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: شَاعِرٌ، كَاهِنٌ، سَاحِرٌ، لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَقَدْ وَضَعْتُهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ فَلَمْ يَلْتَئِمْ، وَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِي أَنَّهُ شِعْرٌ، وَإِنَّهُ لَصَادِقٌ، وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا صَحِيحَةٌ كَثِيرَةٌ. وَالْإِعْجَازُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّوْعَيْنِ: الْإِيجَازُ، وَالْبَلَاغَةُ بِذَاتِهَا، أَوِ الْأُسْلُوبُ الْغَرِيبُ بِذَاتِهِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعُ إِعْجَازٍ عَلَى التَّحْقِيقِ، لَمْ تَقْدِرِ الْعَرَبُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهَا، مُبَايِنٌ لِفَصَاحَتِهَا، وَكَلَامِهَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُحَقِّقِينَ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُقْتَدَى بِهِمْ إِلَى أَنَّ الْإِعْجَازَ فِي مَجْمُوعِ الْبَلَاغَةِ، وَالْأُسْلُوبِ، وَأَتَى عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلٍ تَمُجُّهُ الْأَسْمَاعُ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ الْقُلُوبُ. وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَالْعِلْمُ بِهَذَا كُلِّهِ ضَرُورَةٌ قَطْعًا. وَمَنْ تَفَنَّنَ فِي عُلُومِ الْبَلَاغَةِ، وَأَرْهَفَ خَاطِرَهُ، وَلِسَانَهُ أَدَبُ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مَا قُلْنَاهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي وَجْهِ عَجْزِهِمْ عَنْهُ، فَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ مَا جَمَعَ فِي قُوَّةِ جَزَالَتِهِ، وَنَصَاعَةِ أَلْفَاظِهِ، وَحُسْنِ نَظْمِهِ، وَإِيجَازِهِ، وَبَدِيعِ تَأْلِيفِهِ، وَأُسْلُوبِهِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ، وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَوَارِقِ الْمُمْتَنِعَةِ عَنْ أَقْدَارِ الْخَلْقِ عَلَيْهَا، كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَقَلْبِ الْعَصَا، وَتَسْبِيحِ الْحَصَى. وَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ إِلَى أَنَّ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ مِثْلُهُ تَحْتَ مَقْدُورِ الْبَشَرِ، وَيُقَدِّرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا وَلَا يَكُونُ، فَمَنَعَهُمُ اللَّهُ هَذَا وَعَجَّزَهُمْ عَنْهُ. وَقَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَعَلَى الطَّرِيقَيْنِ فَعَجْزُ الْعَرَبِ عَنْهُ ثَابِتٌ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ، وَتَحَدِّيهِمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ قَاطِعٌ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّعْجِيزِ، وَأَحْرَى بِالتَّقْرِيعِ، وَالِاحْتِجَاجُ بِمَجِيءِ بِشَرٍ مِثْلِهِمْ بِشَيْءٍ لَيْسَ مِنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ لَازِمٌ، وَهُوَ أَبْهَرُ آيَةٍ، وَأَقْمَعُ دَلَالَةٍ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَا أَتَوْا فِي ذَلِكَ بِمَقَالٍ، بَلْ صَبَرُوا عَلَى الْجَلَاءِ، وَالْقَتْلِ، وَتَجَرَّعُوا كَاسَاتِ الصَّغَارِ، وَالذُّلِّ، وَكَانُوا مِنْ شُمُوخِ الْأَنْفِ، وَإِبَاءَةِ الضَّيْمِ، بِحَيْثُ لَا يُؤْثِرُونَ ذَلِكَ اخْتِيَارًا، وَلَا يَرْضَوْنَهُ إِلَّا اضْطِرَارًا، وَإِلَّا فَالْمُعَارَضَةُ لَوْ كَانَتْ مِنْ قُدَرِهِمْ، وَالشُّغْلُ بِهَا أَهْوَنُ عَلَيْهِمْ، وَأَسْرَعُ بِالنَّجْحِ، وَقَطْعِ الْعُذْرِ، وَإِفْحَامِ الْخَصْمِ لَدَيْهِمْ، وَهُمْ مِمَّنْ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى الْكَلَامِ، وَقُدْوَةٌ فِي الْمَعْرِفَةِ بِهِ لِجَمِيعِ الْأَنَامِ، وَمَا مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ جَهَدَ جَهْدَهُ، وَاسْتَنْفَدَ مَا عِنْدَهُ فِي إِخْفَاءِ ظُهُورِهِ، وَإِطْفَاءِ نُورِهِ، فَمَا جَلَوْا فِي ذَلِكَ خَبِيئَةً مِنْ بَنَاتِ شِفَاهِهِمْ، وَلَا أَتَوْا بِنُطْفَةٍ مِنْ مَعِينِ مِيَاهِهِمْ، مَعَ طُولِ الْأَمَدِ، وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ، وَتَظَاهُرِ الْوَالِدِ وَمَا وَلَدَ، بَلْ أَبْلَسُوا فَمَا نَبَسُوا، وَمُنِعُوا فَانْقَطَعُوا، فَهَذَانِ نَوْعَانِ مِنْ إِعْجَازِهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْإِعْجَازِ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبَاتِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ، وَلَمْ يَقَعْ، فَوُجِدَ كَمَا وَرَدَ، وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الْفَتْحِ: 27]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الرُّومِ: 3]. وَقَوْلِهِ: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التَّوْبَةِ: 33]. وَقَوْلِهِ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النُّورِ: 55] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النَّصْرِ: 1] إِلَى آخِرِهَا. فَكَانَ جَمِيعُ هَذَا كَمَا قَالَ، فَغَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ أَفْوَاجًا، فَمَا مَاتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي بِلَادِ الْعَرَبِ كُلِّهَا مَوْضِعٌ لَمْ يَدْخُلْهُ الْإِسْلَامُ. وَاسْتَخْلَفَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَرْضِ، وَمَكَّنَ فِيهَا دِينَهُمْ، وَمَلَّكَهُمْ إِيَّاهَا مِنْ أَقْصَى الْمَشَارِقِ إِلَى أَقْصَى الْمَغَارِبِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زُوِيَتْ إِلَيَّ الْأَرْضُ، فَأُرِيتُ مَشَارِقَهَا، وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا». وَقَوْلِهِ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرِ: 9]، فَكَانَ كَذَلِكَ، لَا يَكَادُ يُعَدُّ مَنْ سَعَى فِي تَغْيِيرِهِ، وَتَبْدِيلِ مُحْكَمِهِ مِنَ الْمُلْحِدَةِ، وَالْمُعَطِّلَةِ، لَا سِيَّمَا الْقَرَامِطَةُ، فَأَجْمَعُوا كَيْدَهُمْ، وَحَوْلَهُمْ، وَقُوَّتَهُمْ، الْيَوْمَ نَيِّفًا عَلَى خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، فَمَا قَدَرُوا عَلَى إِطْفَاءِ شَيْءٍ مِنْ نُورِهِ، وَلَا تَغْيِيرِ كَلِمَةٍ مِنْ كَلَامِهِ، وَلَا تَشْكِيكِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [الْقَمَرِ: 45]. وَقَوْلِهِ: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التَّوْبَةِ: 14] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} [التَّوْبَةِ: 33] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 111] الْآيَةَ.. فَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ. وَمَا فِيهِ مِنْ كَشْفِ أَسْرَارِ الْمُنَافِقِينَ، وَالْيَهُودِ، وَمَقَالِهِمْ، وَكَذِبِهِمْ فِي حَلِفِهِمْ، وَتَقْرِيعِهِمْ بِذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [الْمُجَادَلَةِ: 8]. وَقَوْلِهِ: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ} [آلِ عِمْرَانَ: 154]. وَقَوْلِهِ} وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ} [الْمَائِدَةِ: 41] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ}- إِلَى قَوْلِهِ-: {فِي الدِّينِ} [النِّسَاءِ: 46]. وَقَدْ قَالَ مُبْدِيًا مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ، وَاعْتَقَدَهُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ بَدْرٍ: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الْأَنْفَالِ: 7]. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الْحِجْرِ: 95]. وَلَمَّا نَزَلَتْ بَشَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ بِأَنَّ اللَّهَ كَفَاهُ إِيَّاهُمْ، وَكَانَ الْمُسْتَهْزِئُونَ نَفَرًا بِمَكَّةَ يُنَفِّرُونَ النَّاسَ عَنْهُ، وَيُؤْذُونَهُ فَهَلَكُوا. وَقَوْلُهُ} وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [الْمَائِدَةِ: 67] فَكَانَ كَذَلِكَ عَلَى كَثْرَةِ مَنْ رَامَ ضُرَّهُ، وَقَصَدَ قَتْلَهُ، وَالْأَخْبَارُ بِذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ صَحِيحَةٌ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ، وَالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ، وَالشَّرَائِعِ الدَّاثِرَةِ، مِمَّا كَانَ لَا يَعْلَمُ مِنْهُ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ إِلَّا الْفَذُّ مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي قَطَعَ عُمُرَهُ فِي تَعَلُّمٍ ذَلِكَ، فَيُورِدُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِهِ، وَيَأْتِي بِهِ عَلَى نَصِّهِ، فَيَعْتَرِفُ الْعَالِمُ بِذَلِكَ بِصِحَّتِهِ، وَصِدْقِهِ، وَأَنَّ مِثْلَهُ لَمْ يَنَلْهُ بِتَعْلِيمٍ. وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ، وَلَا يَكْتُبُ، وَلَا اشْتَغَلَ بِمُدَارَسَةٍ، وَلَا مُثَافَنَةٍ، وَلَمْ يَغِبْ عَنْهُمْ، وَلَا جَهِلَ حَالَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ كَثِيرًا مَا يَسْأَلُونَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا، فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ مَا يَتْلُو عَلَيْهِمْ مِنْهُ ذِكْرًا، كَقِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ قَوْمِهِمْ، وَخَبَرِ مُوسَى، وَالْخَضِرِ، وَيُوسُفَ، وَإِخْوَتِهِ، وَأَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ، وَلُقْمَانَ وَابْنِهِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنَ الْأَنْبَاءِ، وَبَدْءِ الْخَلْقِ، وَمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ، وَالزَّبُورِ، وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى، مِمَّا صَدَّقَهُ فِيهِ الْعُلَمَاءُ بِهَا، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى تَكْذِيبِ مَا ذُكِرَ مِنْهَا، بَلْ أَذْعَنُوا لِذَلِكَ، فَمِنْ مُوَفَّقٍ آمَنَ بِمَا سَبَقَ لَهُ مِنْ خَيْرٍ، وَمِنْ شَقِيٍّ مُعَانِدٍ حَاسِدٍ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يُحْكَ عَنْ وَاحِدٍ مِنَ النَّصَارَى، وَالْيَهُودِ عَلَى شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لَهُ، وَحِرْصِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ، وَطُولِ احْتِجَاجِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ، وَتَقْرِيعِهِمْ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مَصَاحِفُهُمْ، وَكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَعْنِيتِهِمْ إِيَّاهُ عَنْ أَخْبَارِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَأَسْرَارِ عُلُومِهِمْ، وَمُسْتَوْدَعَاتِ سِيَرِهِمْ، وَإِعْلَامِهِ لَهُمْ بِمَكْتُومِ شَرَائِعِهِمْ، وَمُضَمَّنَاتِ كُتُبِهِمْ، مِثْلَ سُؤَالِهِمْ عَنِ الرُّوحِ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ، وَأَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَعِيسَى، وَحُكْمِ الرَّجْمِ، وَمَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَمِنْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ بِبَغْيِهِمْ. وَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} [الْفَتْحِ: 29]. وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمُ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا الْقُرْآنُ فَأَجَابَهُمْ، وَعَرَّفَهُمْ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَوْ كَذَّبَهُ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ صَرَّحَ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَصِدْقِ مَقَالَتِهِ، وَاعْتَرَفَ بِعِنَادِهِ، وَحَسَدِهِمْ إِيَّاهُ، كَأَهْلِ نَجْرَانَ، وَابْنِ صُورِيَا، وَابْنَيْ أَخْطَبَ، وَغَيْرِهِمْ. وَمَنْ بَاهَتَ فِي ذَلِكَ بَعْضَ الْمُبَاهَتَةِ، وَادَّعَى أَنَّ فِيمَا عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ لِمَا حَكَاهُ مُخَالَفَةً دُعِيَ إِلَى إِقَامَةِ حُجَّتِهِ، وَكَشْفِ دَعْوَتِهِ، فَقِيلَ لَهُ: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}- إِلَى قَوْلِهِ-: {الظَّالِمُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 93- 94]. فَقَرَّعَ، وَوَبَّخَ، وَدَعَا إِلَى إِحْضَارِ مُمْكِنٍ غَيْرِ مُمْتَنِعٍ، فَمِنْ مُعْتَرِفٍ بِمَا جَحَدَهُ، وَمُتَوَاقِحٍ يُلْقِي عَلَى فَضِيحَتِهِ مِنْ كِتَابِهِ يَدَهُ. وَلَمْ يُؤْثَرْ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَظْهَرَ خِلَافَ قَوْلِهِ مِنْ كُتُبِهِ، وَلَا أَبْدَى صَحِيحًا، وَلَا سَقِيمًا مِنْ صُحُفِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الْمَائِدَةِ: 15] الْآيَتَيْنِ.
هَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ إِعْجَازِهِ بَيِّنَةٌ لَا نِزَاعَ فِيهَا، وَلَا مِرْيَةَ. وَمِنَ الْوُجُوهِ الْبَيِّنَةِ فِي إِعْجَازِهِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَيْ وَرَدَتْ بِتَعْجِيزِ قَوْمٍ فِي قَضَايَا، وَإِعْلَامِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَهَا فَمَا فَعَلُوا، وَلَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ لِلْيَهُودِ: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً} [الْبَقَرَةِ: 94] الْآيَةَ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْظَمُ حُجَّةٍ، وَأَظْهَرُ دَلَالَةٍ عَلَى صِحَّةِ الرِّسَالَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} [الْجُمُعَةِ: 6]، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا، فَلَمْ يَتَمَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَقُولُهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَّا غَصَّ بِرِيقِهِ» يَعْنِي يَمُوتُ مَكَانَهُ. فَصَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنْ تَمَنِّيهِ، وَجَزَّعَهُمْ، لِيُظْهِرَ صِدْقَ رَسُولِهِ، وَصِحَّةَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، إِذَا لَمْ يَتَمَنَّهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَكَانُوا عَلَى تَكْذِيبِهِ أَحْرَصَ لَوْ قَدَرُوا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، فَظَهَرَتْ بِذَلِكَ مُعْجِزَتُهُ، وَبَانَتْ حُجَّتُهُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَصِيلِيُّ : مِنْ أَعْجَبِ أَمْرِهِمْ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، وَلَا وَاحِدٌ مِنْ يَوْمِ أَمَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ نَبِيَّهُ يُقْدِمُ عَلَيْهِ، وَلَا يُجِيبُ إِلَيْهِ. وَهَذَا مَوْجُودٌ مَشَاهَدٌ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَمْتَحِنَهُ مِنْهُمْ. وَكَذَلِكَ آيَةُ الْمُبَاهَلَةِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، حَيْثُ وَفَدَ عَلَيْهِ أَسَاقِفَةُ نَجْرَانَ، وَأَبَوُا الْإِسْلَامَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ آيَةَ الْمُبَاهَلَةِ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 61] الْآيَةَ. فَامْتَنَعُوا مِنْهَا، وَرَضُوا بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَاقِبَ عَظِيمَهُمْ قَالَ لَهُمْ: قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَّهُ مَا لَاعَنَ قَوْمًا نَبِيٌّ قَطُّ فَبَقِيَ كَبِيرُهُمْ، وَلَا صَغِيرُهُمْ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [الْبَقَرَةِ: 23]- إِلَى قَوْلِهِ-: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [الْبَقَرَةِ: 23]. فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ، كَمَا كَانَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَدْخَلُ فِي بَابِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ، وَلَكِنْ فِيهَا مِنَ التَّعْجِيزِ مَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَمِنْهَا الرَّوْعَةُ الَّتِي تَلْحَقُ قُلُوبَ سَامِعِيهِ، وَأَسْمَاعَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِهِ، وَالْهَيْبَةُ الَّتِي تَعْتَرِيهِمْ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِقُوَّةِ حَالِهِ، وَإِنَافَةِ خَطَرِهِ، وَهِيَ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِهِ أَعْظَمُ، حَتَّى كَانُوا يَسْتَثْقِلُونَ سَمَاعَهُ، وَيَزِيدُهُمْ نُفُورًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى، وَيَوَدُّونَ انْقِطَاعَهُ لِكَرَاهَتِهِمْ لَهُ. وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْقُرْآنَ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ عَلَى مَنْ كَرِهَهُ»، وَهُوَ الْحَكَمُ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَا تَزَالُ رَوْعَتُهُ بِهِ، وَهَيْبَتُهُ إِيَّاهُ، مَعَ تِلَاوَتِهِ تُولِيهِ انْجِذَابًا، وَتُكْسِبُهُ هَشَاشَةً، لِمَيْلِ قَلْبِهِ إِلَيْهِ، وَتَصْدِيقِهِ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزُّمَرِ: 23]. وَقَالَ: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} [الْحَشْرِ: 21] الْآيَةَ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا شَيْءٌ خُصَّ بِهِ أَنَّهُ يَعْتَرِي مَنْ لَا يَفْهَمُ مَعَانِيهِ، وَلَا يَعْلَمُ تَفَاسِيرَهُ، كَمَا رُوِيَ عَنْ نَصْرَانِيٍّ أَنَّهُ مَرَّ بِقَارِئٍ فَوَقَفَ يَبْكِي، فَقِيلَ لَهُ: مِمَّ بَكَيْتَ؟ قَالَ: لِلشَّجَا، وَالنَّظْمِ. وَهَذِهِ الرَّوْعَةُ قَدِ اعْتَرَتْ جَمَاعَةً قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَبَعْدَهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ لَهَا لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَآمَنَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ. فَحُكِيَ فِي الصَّحِيحِ ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}- إِلَى قَوْلِهِ-: {الْمُسَيْطِرُونَ} [الطُورِ: 35- 37] كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ لِلْإِسْلَامِ. وَفِي رِوَايَةٍ: وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا وَقَرَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي. وَعَنْ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ كَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ خِلَافِ قَوْمِهِ، فَتَلَا عَلَيْهِمْ: {حم} [فُصِّلَتْ: 1]- إِلَى قَوْلِهِ-: {صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فُصِّلَتْ: 13]. فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ بِيَدِهِ عَلَى فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَاشَدَهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ، وَعُتْبَةُ مُصْغٍ مُلْقٍ يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ، مُعْتَمِدٌ عَلَيْهِمَا، حَتَّى انْتَهَى إِلَى السَّجْدَةِ، فَسَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَامَ عُتْبَةُ لَا يَدْرِي بِمَا يُرَاجِعُهُ، وَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى قَوْمِهِ حَتَّى أَتَوْهُ، فَاعْتَذَرَ لَهُمْ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّمَنِي بِكَلَامٍ، وَاللَّهِ مَا سَمِعَتْ أُذُنَايَ بِمِثْلِهِ قَطُّ فَمَا دَرَيْتُ مَا أَقُولُ لَهُ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِمَّنْ رَامَ مُعَارَضَتَهُ أَنَّهُ اعْتَرَتْهُ رَوْعَةٌ، وَهَيْبَةٌ كَفَّ بِهَا عَنْ ذَلِكَ. فَحُكِيَ أَنَّ ابْنَ الْمُقَفَّعِ طَلَبَ ذَلِكَ، وَرَامَهُ، وَشَرَعَ فِيهِ، فَمَرَّ بِصَبِيٍّ يَقْرَأُ: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هُودٍ: 44] فَرَجَعَ فَمَحَا مَا عَمِلَ، وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا لَا يُعَارَضُ، وَمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ، وَكَانَ مِنْ أَفْصَحِ أَهْلِ وَقْتِهِ. وَكَانَ يَحْيَى بْنُ حَكَمٍ الْغَزَّالُ بَلِيغَ الْأَنْدَلُسِ فِي زَمَنِهِ، فَحُكِيَ أَنَّهُ رَامَ شَيْئًا مِنْ هَذَا فَنَظَرَ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ لِيَحْذُوَ عَلَى مِثَالِهَا، وَيَنْسِجَ بِزَعْمِهِ عَلَى مِنْوَالِهَا قَالَ: فَاعْتَرَتْنِي خَشْيَةٌ، وَرِقَّةٌ حَمَلَتْنِي عَلَى التَّوْبَةِ، وَالْإِنَابَةِ.
وَمِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ الْمَعْدُودَةِ كَوْنُهُ آيَةً بَاقِيَةً لَا تُعْدَمُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا مَعَ تَكَفُّلِ اللَّهِ تَعَالَى بِحِفْظِهِ فَقَالَ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرِ: 9]. وَقَالَ: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فُصِّلَتْ: 42] الْآيَةَ. وَسَائِرُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ انْقَضَتْ بِانْقِضَاءِ أَوْقَاتِهَا، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا خَبَرُهَا، وَالْقُرْآنُ الْعَزِيزُ، الْبَاهِرَةُ آيَاتُهُ، الظَّاهِرَةُ مُعْجِزَاتُهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ مُدَّةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً لِأَوَّلِ نُزُولِهِ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا حُجَّتُهُ قَاهِرَةٌ، وَمُعَارَضَتُهُ مُمْتَنِعَةٌ، وَالْأَعْصَارُ كُلُّهَا طَافِحَةٌ بِأَهْلِ الْبَيَانِ وَحَمَلَةِ عِلْمِ اللِّسَانِ، وَأَئِمَّةِ الْبَلَاغَةِ، وَفُرْسَانِ الْكَلَامِ، وَجَهَابِذَةِ الْبَرَاعَةِ، وَالْمُلْحِدُ فِيهِمْ كَثِيرٌ، وَالْمُعَادِي لِلشَّرْعِ عَتِيدٌ، فَمَا مِنْهُمْ مَنْ أَتَى بِشَيْءٍ يُؤْثَرُ فِي مُعَارَضَتِهِ، وَلَا أَلَّفَ كَلِمَتَيْنِ فِي مُنَاقَضَتِهِ، وَلَا قَدَرَ فِيهِ عَلَى مَطْعَنٍ صَحِيحٍ، وَلَا قَدَحَ الْمُتَكَلِّفُ مِنْ ذِهْنِهِ فِي ذَلِكَ إِلَّا بِزَنْدٍ شَحِيحٍ، بَلِ الْمَأْثُورُ عَنْ كُلِّ مَنْ رَامَ ذَلِكَ إِلْقَاؤُهُ فِي الْعَجْزِ بِيَدَيْهِ، وَالنُّكُوصُ عَلَى عَقِبَيْهِ.
وَقَدْ عَدَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَمُقَلِّدِي الْأُمَّةِ فِي إِعْجَازِهِ وُجُوهًا كَثِيرَةً، مِنْهَا أَنَّ قَارِئَهُ لَا يَمَلُّهُ، وَسَامِعَهُ لَا يَمُجُّهُ، بَلِ الْإِكْبَابُ عَلَى تِلَاوَتِهِ يَزِيدُهُ حَلَاوَةً، وَتَرْدِيدُهُ يُوجِبُ لَهُ مَحَبَّةً، لَا يَزَالُ غَضًّا طَرِيًّا، وَغَيْرُهُ مِنَ الْكَلَامِ، وَلَوْ بَلَغَ فِي الْحُسْنِ، وَالْبَلَاغَةِ مَبْلَغَهُ يُمَلُّ مَعَ التَّرْدِيدِ، وَيُعَادَى إِذَا أُعِيدَ، وَكِتَابُنَا يُسْتَلَذُّ بِهِ فِي الْخَلَوَاتِ، وَيُؤْنَسُ بِتِلَاوَتِهِ فِي الْأَزَمَاتِ، وَسِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ لَا يُوجَدُ فِيهَا ذَلِكَ، حَتَّى أَحْدَثَ أَصْحَابُهَا لُحُونًا، وَطُرُقًا يَسْتَجْلِبُونَ بِتِلْكَ اللُّحُونِ تَنْشِيطَهُمْ عَلَى قِرَاءَتِهَا. وَلِهَذَا وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ لَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عِبَرُهُ، وَلَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، لَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ حِينَ سَمِعَتْهُ أَنْ قَالُوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الْجِنِّ: 1]. وَمِنْهَا جَمْعُهُ لِعُلُومٍ، وَمَعَارِفَ لَمْ تَعْهَدِ الْعَرَبُ عَامَّةً، وَلَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ خَاصَّةً بِمَعْرِفَتِهَا، وَلَا الْقِيَامِ بِهَا، وَلَا يُحِيطُ بِهَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَمِ، وَلَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا كِتَابٌ مِنْ كُتُبِهِمْ، فَجَمَعَ فِيهِ مِنْ بَيَانِ عَلْمِ الشَّرَائِعِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى طُرُقِ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّاتِ، وَالرَّدِّ عَلَى فِرَقِ الْأُمَمِ، بِبَرَاهِينَ قَوِيَّةٍ، وَأَدِلَّةٍ بَيِّنَةٍ سَهْلَةِ الْأَلْفَاظِ، مُوجَزَةِ الْمَقَاصِدِ، رَامَ الْمُتَحَذْلِقُونَ بَعْدَ أَنْ يَنْصِبُوا أَدِلَّةً مِثْلَهَا فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ} [يس: 81]. وَ: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79]. وَ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ} [الْأَنْبِيَاءِ: 22]. إِلَى مَا حَوَاهُ مِنْ عُلُومِ السِّيَرِ، وَأَنْبَاءِ الْأُمَمِ، وَالْمَوَاعِظِ، وَالْحِكَمِ، وَأَخْبَارِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَمَحَاسِنِ الْآدَابِ، وَالشِّيَمِ. قَالَ اللَّهُ جَلَّ اسْمُهُ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 38]. } وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النَّحْلِ: 89]. } وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الرُّومِ: 58]. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ آمِرًا، وَزَاجِرًا، وَسُنَّةً خَالِيَةً، وَمَثَلًا مَضْرُوبًا، فِيهِ نَبَؤُكُمْ، وَخَبَرُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ، وَنَبَأُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، لَا يُخْلِقُهُ طُولُ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الْحَقُّ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ خَاصَمَ بِهِ فَلَجَ، وَمَنْ قَسَمَ بِهِ أَقْسَطَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَمَنْ طَلَبَ الْهُدَى مِنْ غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ حَكَمَ بِغَيْرِهِ قَصَمَهُ اللَّهُ، هُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَحَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ، لَا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمَ، وَلَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبَ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ». وَنَحْوُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ فِيهِ: وَلَا يَخْتَلِفُ، وَلَا يَتَشَانُّ، فِيهِ نَبَأُ الْأَوَّلِينَ، وَالْآخِرِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي مُنَزِّلٌ عَلَيْكَ تَوْرَاةً حَدِيثَةً، تَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا، فِيهَا يَنَابِيعُ الْعِلْمِ، وَفَهْمُ الْحِكْمَةِ، وَرَبِيعُ الْقُلُوبِ». وَعَنْ كَعْبٍ: عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ فَهْمُ الْعُقُولِ، وَنُورُ الْحِكْمَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النَّمْلِ: 76]. وَقَالَ: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى} [آلِ عِمْرَانَ: 138] الْآيَةَ. فَجُمِعَ فِيهِ مَعَ وَجَازَةِ أَلْفَاظِهِ، وَجَوَامِعِ كَلِمِهِ أَضْعَافُ مَا فِي الْكُتُبِ قَبْلَهُ الَّتِي أَلْفَاظُهَا عَلَى الضِّعْفِ مِنْهُ مَرَّاتٍ. وَمِنْهَا جَمْعُهُ فِيهِ بَيْنَ الدَّلِيلِ، وَمَدْلُولِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ احْتَجَّ بِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَحُسْنِ وَصْفِهِ، وَإِيجَازِهِ، وَبَلَاغَتِهِ، وَأَثْنَاءَ هَذِهِ الْبَلَاغَةِ أَمْرُهُ، وَنَهْيُهُ، وَوَعْدُهُ، وَوَعِيدُهُ، فَالتَّالِي لَهُ يَفْهَمُ مَوْضِعَ الْحُجَّةِ، وَالتَّكْلِيفِ مَعًا مِنْ كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَسُورَةٍ مُنْفَرِدَةٍ. وَمِنْهَا أَنَّ جَعْلَهُ فِي حَيِّزِ الْمَنْظُومِ الَّذِي لَمْ يُعْهَدْ، وَلَمْ يَكُنْ فِي حَيِّزِ الْمَنْثُورِ، لِأَنَّ الْمَنْظُومَ أَسْهَلُ عَلَى النُّفُوسِ، وَأَوْعَى لِلْقُلُوبِ، وَأَسْمَعُ فِي الْآذَانِ وَأَحْلَى عَلَى الْأَفْهَامِ، فَالنَّاسُ إِلَيْهِ أَمْيَلُ، وَالْأَهْوَاءُ إِلَيْهِ أَسْرَعُ. وَمِنْهَا تَيْسِيرُهُ تَعَالَى حِفْظَهُ لِمُتَعَلِّمِيهِ، وَتَقْرِيبُهُ عَلَى مُتَحَفِّظِيهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [الْقَمَرِ: 22]. وَسَائِرُ الْأُمَمِ لَا يَحْفَظُ كُتُبَهَا الْوَاحِدُ مِنْهُمْ، فَكَيْفَ الْجَمَّاءُ عَلَى مُرُورِ السِّنِينَ عَلَيْهِمْ. وَالْقُرْآنُ مُيَسَّرٌ حِفْظُهُ لِلْغِلْمَانِ فِي أَقْرَبِ مُدَّةٍ. وَمِنْهَا مُشَاكَلَةُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ بَعْضًا، وَحُسْنُ ائْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَالْتِئَامِ أَقْسَامِهَا، وَحُسْنُ التَّخَلُّصِ مِنْ قِصَّةٍ إِلَى أُخْرَى، وَالْخُرُوجِ مِنْ بَابٍ إِلَى غَيْرِهِ عَلَى اخْتِلَافِ مَعَانِيهِ، وَانْقِسَامُ السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ إِلَى أَمْرٍ، وَنَهْيٍ، وَخَبَرٍ، وَاسْتِخْبَارٍ، وَوَعْدٍ، وَوَعِيدٍ، وَإِثْبَاتِ نُبُوَّةٍ، وَتَوْحِيدٍ، وَتَفْرِيدٍ، وَتَرْغِيبٍ، وَتَرْهِيبٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَوَائِدِهِ، دُونَ خَلَلٍ يَتَخَلَّلُ فُصُولَهُ. وَالْكَلَامُ الْفَصِيحُ إِذَا اعْتَوَرَهُ مِثْلُ هَذَا ضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، وَلَانَتْ جَزَالَتُهُ، وَقَلَّ رَوْنَقُهُ، وَتَقَلْقَلَتْ أَلْفَاظُهُ. فَتَأَمَّلْ أَوَّلَ {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] وَمَا جُمِعَ فِيهَا مِنْ أَخْبَارِ الْكُفَّارِ، وَشِقَاقِهِمْ، وَتَقْرِيعِهِمْ بِإِهْلَاكِ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَعَجُّبِهِمْ مِمَّا أَتَى بِهِ، وَالْخَبَرِ عَنِ اجْتِمَاعِ مَلَئِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَمَا ظَهَرَ مِنَ الْحَسَدِ فِي كَلَامِهِمْ، وَتَعْجِيزِهِمْ، وَتَوْهِينِهِمْ، وَوَعِيدِهِمْ بِخِزْيِ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ، وَتَكْذِيبِ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَإِهْلَاكِ اللَّهِ لَهُمْ، وَوَعِيدِ هَؤُلَاءِ مِثْلَ مُصَابِهِمْ، وَتَصْبِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَذَاهُمْ، وَتَسْلِيَتِهِ بِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، ثُمَّ أَخَذَ فِي ذِكْرِ دَاوُدَ، وَقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ، كُلُّ هَذَا فِي أَوْجَزِ كَلَامٍ، وَأَحْسَنِ نِظَامٍ. وَمِنْهُ الْجُمْلَةُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي انْطَوَتْ عَلَيْهَا الْكَلِمَاتُ الْقَلِيلَةُ، وَهَذَا كُلُّهُ، وَكَثِيرٌ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ ذُكِرَ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ إِلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ذَكَرَهَا الْأَئِمَّةُ لَمْ نَذْكُرْهَا، إِذْ أَكْثَرُهَا دَاخِلٌ فِي بَابِ بَلَاغَتِهِ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يُعَدَّ فَنًّا مُنْفَرِدًا فِي إِعْجَازِهِ، إِلَّا فِي بَابِ تَفْصِيلِ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ عَنْهُمْ يُعَدُّ فِي خَوَاصِّهِ، وَفَضَائِلِهِ، لَا إِعْجَازِهِ. وَحَقِيقَةُ الْإِعْجَازِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَلْيُعْتَمَدْ عَلَيْهَا، وَمَا بَعْدَهَا مِنْ خَوَاصِّ الْقُرْآنِ وَعَجَائِبِهِ الَّتِي لَا تَنْقَضِي. وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [الْقَمَرِ: 1- 2]. أَخْبَرَ تَعَالَى بِوُقُوعِ انْشِقَاقِهِ بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَإِعْرَاضِ الْكَفَرَةِ عَنْ آيَاتِهِ، وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى وُقُوعِهِ. [أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ مِنْ كِتَابِهِ، حَدَّثَنَا الْقَاضِي سِرَاجُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا الْأَصِيلِيُّ، حَدَّثَنَا الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، وَسُفْيَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ]، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةً فَوْقَ الْجَبَلِ، وَفِرْقَةً دُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اشْهَدُوا». وَفِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ: وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْأَعْمَشِ: وَنَحْنُ بِمِنًى. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْأَسْوَدُ، وَقَالَ: حَتَّى رَأَيْتُ الْجَبَلَ بَيْنَ فُرْجَتَيِ الْقَمَرِ. وَرَوَاهُ عَنْهُ مَسْرُوقٌ أَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ، وَزَادَ: فَقَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: سَحَرَكُمُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ! فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: إِنَّ مُحَمَّدًا إِنْ كَانَ سَحَرَ الْقَمَرَ فَإِنَّهُ لَا يَبْلُغُ مِنْ سِحْرِهِ أَنْ يَسْحَرَ الْأَرْضَ كُلَّهَا، فَاسْأَلُوا مَنْ يَأْتِيكُمْ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ: هَلْ رَأَوْا هَذَا؟ فَأَتَوْا، فَسَأَلُوهُمْ فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ رَأَوْا مِثْلَ ذَلِكَ. وَحَكَى السَّمَرْقَنْدِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ، وَقَالَ: فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا سِحْرٌ، فَابْعَثُوا إِلَى أَهْلِ الْآفَاقِ حَتَّى تَنْظُرُوا: أَرَأَوْا ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَأَخْبَرَ أَهْلُ الْآفَاقِ أَنَّهُمْ رَأَوْهُ مُنْشَقًّا، فَقَالُوا- يَعْنِي الْكُفَّارَ-: هَذَا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلْقَمَةُ، فَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ ابْنِ مَسْعُودٍ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، مِنْهُمْ أَنَسٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَحُذَيْفَةُ، وَعَلِيٌّ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ الْأَرْحَبِيِّ: انْشَقَّ الْقَمَرُ، وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْ أَنَسٍ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً، فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ فِرْقَتَيْنِ حَتَّى رَأَوْا حِرَاءً بَيْنَهُمَا. رَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ قَتَادَةُ. وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَغَيْرِهِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْهُ: أَرَاهُمُ الْقَمَرَ مَرَّتَيْنِ انْشِقَاقَهُ، فَنَزَلَتْ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [الْقَمَرِ: 1]. وَرَوَاهُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ، وَابْنُ ابْنِهِ جُبَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ. وَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ. وَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مُجَاهِدٌ، وَرَوَاهُ عَنْ حُذَيْفَةَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَمُسْلِمُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ الْأَزْدِيُّ. وَأَكْثَرُ طُرُقِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ صَحِيحَةٌ، وَالْآيَةُ مُصَرِّحَةٌ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى اعْتِرَاضِ مَخْذُولٍ، بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا لَمْ يَخْفَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، إِذْ هُوَ شَيْءٌ ظَاهِرٌ لِجَمِيعِهِمْ، إِذْ لَمْ يُنْقَلْ لَنَا عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنَّهُمْ رَصَدُوهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَرَوْهُ انْشَقَّ، وَلَوْ نُقِلَ إِلَيْنَا عَمَّنْ لَا يَجُوزُ تَمَالُؤُهُمْ لِكَثْرَتِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ، لَمَا كَانَتْ عَلَيْنَا بِهِ حُجَّةٌ، إِذْ لَيْسَ الْقَمَرُ فِي حَدٍّ وَاحِدٍ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَقَدْ يَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ عَلَى آخَرِينَ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ قَوْمٍ بِضِدِّ مَا هُوَ مِنْ مُقَابِلِهِمْ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، أَوْ يَحُولُ بَيْنَ قَوْمٍ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ أَوْ جِبَالٌ، وَلِهَذَا نَجِدُ الْكُسُوفَاتِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ دُونَ بَعْضٍ، وَفِي بَعْضِهَا جُزْئِيَّةً، وَفِي بَعْضِهَا كُلِّيَّةً، وَفِي بَعْضِهَا لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْمُدَّعُونَ لِعِلْمِهَا، {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38]. وَآيَةُ الْقَمَرِ كَانَتْ لَيْلًا، وَالْعَادَةُ مِنَ النَّاسِ بِاللَّيْلِ الْهُدُوُّ، وَالسُّكُونُ، وَإِيجَافُ الْأَبْوَابِ، وَقَطْعُ التَّصَرُّفِ، وَلَا يَكَادُ يَعْرِفُ مِنْ أُمُورِ السَّمَاءِ شَيْئًا، إِلَّا مَنْ رَصَدَ ذَلِكَ، وَاهْتَبَلَ بِهِ وَلِذَلِكَ مَا يَكُونُ الْكُسُوفُ الْقَمَرِيُّ كَثِيرًا فِي الْبِلَادِ، وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُ بِهِ حَتَّى يُخْبَرَ، وَكَثِيرًا مَا يُحَدِّثُ الثِّقَاتُ بِعَجَائِبَ يُشَاهِدُونَهَا مِنْ أَنْوَارٍ، وَنُجُومٍ طَوَالِعَ عِظَامٍ تَظْهَرُ فِي الْأَحْيَانِ بِاللَّيْلِ فِي السَّمَاءِ، وَلَا عِلْمَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهَا. وَخَرَّجَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُشْكِلِ الْحَدِيثِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ مِنْ طَرِيقَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوحَى إِلَيْهِ، وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ عَلِيٍّ فَلَمْ يُصَلِّ الْعَصْرَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصَلَّيْتَ يَا عَلِيُّ؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ فِي طَاعَتِكَ، وَطَاعَةِ رَسُولِكَ فَارْدُدْ عَلَيْهِ الشَّمْسَ». قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَرَأَيْتُهَا غَرَبَتْ، ثُمَّ طَلَعَتْ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ، وَوَقَفَتْ عَلَى الْجِبَالِ، وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ بِالصَّهْبَاءِ فِي خَيْبَرَ. قَالَ: وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ ثَابِتَانِ، وَرُوَاتُهُمَا ثِقَاتٌ. وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ صَالِحٍ كَانَ يَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لِمَنْ سَبِيلُهُ الْعِلْمُ التَّخَلُّفُ عَنْ حِفْظِ حَدِيثِ أَسْمَاءَ، لِأَنَّهُ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ. وَرَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ فِي زِيَادَةِ الْمَغَازِي فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَ قَوْمَهُ بِالرُّفْقَةِ، وَالْعَلَامَةِ الَّتِي فِي الْعِيرِ قَالُوا: مَتَى تَجِيءُ؟ قَالَ: يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ أَشْرَفَتْ قُرَيْشٌ يَنْظُرُونَ، وَقَدْ وَلَّى النَّهَارُ، وَلَمْ تَجِئْ؟ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَزِيدَ لَهُ فِي النَّهَارِ سَاعَةٌ، وَحُبِسَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ.
أَمَّا الْأَحَادِيثُ فِي هَذَا فَكَثِيرَةٌ جِدًّا. رَوَى حَدِيثَ نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ أَصَابِعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ أَنَسٌ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ مَسْعُودٍ: [حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْفَقِيهُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، حَدَّثَنَا الْقَاضِي عِيسَى بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَاتِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ الْفَخَّارِ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ]، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوُضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوُضُوءٍ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْإِنَاءِ يَدَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ. قَالَ: فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، فَتَوَضَّأَ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ قَتَادَةُ، وَقَالَ: بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ يَغْمُرُ أَصَابِعَهُ، أَوْ لَا يَكَادُ يَغْمُرُ. قَالَ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: كُنَّا زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: وَهُمْ بِالزَّوْرَاءِ عِنْدَ السُّوقِ. وَرَوَاهُ أَيْضًا حُمَيْدٌ، وَثَابِتٌ، وَالْحَسَنُ، عَنْ أَنَسٍ. وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ: قُلْتُ: كَمْ كَانُوا؟ قَالَ: ثَمَانِينَ. وَنَحْوُهُ عَنْ ثَابِتٍ عَنْهُ. وَعَنْهُ أَيْضًا: وَهُمْ نَحْوٌ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا. وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَفِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ عَلْقَمَةَ عَنْهُ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ مَعَنَا مَاءٌ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اطْلُبُوا مَنْ مَعَهُ فَضْلُ مَاءٍ»، فَأُتِيَ بِمَاءٍ فَصَبَّهُ فِي إِنَاءٍ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ فِيهِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا، وَأَقْبَلَ النَّاسُ نَحْوَهُ، وَقَالُوا: لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ إِلَّا مَا فِي رَكْوَتِكَ، فَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فِي الرَّكْوَةِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ. وَفِيهِ: فَقُلْتُ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالُوا: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَنَسٍ، عَنْ جَابِرٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةِ. وَفِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْهُ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ الطَّوِيلِ فِي ذِكْرِ غَزْوَةِ بُوَاطٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا جَابِرُ، نَادِ الْوُضُوءَ»... وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ إِلَّا قَطْرَةً فِي عَزْلَاءِ شَجْبٍ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَمَزَهُ، وَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ لَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَقَالَ: «نَادِ بِجَفْنَةِ الرَّكْبِ»، فَأَتَيْتُ بِهَا، فَوَضَعْتُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَسَطَ يَدَهُ فِي الْجَفْنَةِ، وَفَرَّقَ أَصَابِعَهُ، وَصَبَّ جَابِرٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ فَارَتِ الْجَفْنَةُ، وَاسْتَدَارَتْ حَتَّى امْتَلَأَتْ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالِاسْتِقَاءِ، فَاسْتَقَوْا حَتَّى رَوَوْا. فَقُلْتُ: هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ لَهُ حَاجَةٌ؟ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ مِنَ الْجَفْنَةِ، وَهِيَ مَلْأَى. وَعَنِ الشِّعْبِيِّ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ بِإِدَاوَةِ مَاءٍ، وَقِيلَ: مَا مَعَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاءٌ غَيْرُهَا، فَسَكَبَهَا فِي رَكْوَةٍ، وَوَضَعَ إِصْبُعَهُ وَسَطَهَا، وَغَمَسَهَا فِي الْمَاءِ، وَجَعَلَ النَّاسُ يَجِيئُونَ، وَيَتَوَضَّئُونَ ثُمَّ يَقُومُونَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ ، وَفِي الْبَابِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ. وَمِثْلُ هَذَا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ الْحَفِلَةِ، وَالْجُمُوعِ الْكَثِيرَةِ لَا تَتَطَرَّقُ التُّهْمَةُ إِلَى الْمُحَدِّثِ بِهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَسْرَعَ شَيْءٍ إِلَى تَكْذِيبِهِ، لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَسْكُتُ عَلَى بَاطِلٍ، فَهَؤُلَاءِ قَدْ رَوَوْا هَذَا وَأَشَاعُوهُ، وَنَسَبُوا حُضُورَ الْجَمَّاءِ الْغَفِيرِ لَهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِمْ مَا حَدَّثُوا بِهِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ، وَشَاهَدُوهُ، فَصَارَ كَتَصْدِيقِ جَمِيعِهِمْ لَهُ.
فِيمَا رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي قِصَّةِ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَأَنَّهُمْ وَرَدُوا الْعَيْنَ، وَهِيَ تَبِضُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ مِثْلِ الشِّرَاكِ، فَغَرَفُوا مِنَ الْعَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ حَتَّى اجْتَمَعَ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ وَجْهَهُ، وَيَدَيْهِ، وَأَعَادَهُ فِيهَا، فَجَرَتْ بِمَاءٍ كَثِيرٍ، فَاسْتَقَى النَّاسُ. قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ : فَانْخَرَقَ مِنَ الْمَاءِ مَا لَهُ حِسٌّ كَحِسِّ الصَّوَاعِقِ. ثُمَّ قَالَ: «يُوشِكُ يَا مُعَاذُ، إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَا هَهُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا». وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ، وَمَسْلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَحَدِيثُهُ أَتَمُّ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، وَبِئْرُهَا لَا تَرْوِي خَمْسِينَ شَاةً، فَنَزَحْنَاهَا فَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً، فَقَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَبَاهَا. قَالَ الْبَرَاءُ، وَأُتِيَ بِدَلْوٍ مِنْهَا، فَبَصَقَ فَدَعَا. وَقَالَ سَلَمَةُ: فَإِمَّا دَعَا، وَإِمَّا بَصَقَ فِيهَا، فَجَاشَتْ، فَأَرْوَوْا أَنْفُسَهُمْ، وَرِكَابَهُمْ. وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ [فِي الْحُدَيْبِيَةِ]: فَأَخْرَجَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، فَوَضَعَهُ فِي قَعْرِ قَلِيبٍ لَيْسَ فِيهِ مَاءٌ؟ فَرُوِيَ النَّاسُ حَتَّى ضَرَبُوا بِعَطَنٍ. وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ ، وَذَكَرَ أَنَّ النَّاسَ شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَطَشَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَدَعَا بِالْمِيضَأَةِ، فَجَعَلَهَا فِي ضَبْنِهِ، ثُمَّ الْتَقَمَ فَمَهَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ نَفَثَ فِيهَا أَمْ لَا، فَشَرِبَ النَّاسُ حَتَّى رَوَوْا، وَمَلَئُوا كُلَّ إِنَاءٍ مَعَهُمْ، فَخُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّهَا كَمَا أَخَذَهَا مِنِّي، وَكَانُوا اثْنَيْنِ، وَسَبْعِينَ رَجُلًا. وَرَوَى مِثْلَهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ حَدِيثَ أَبِي قَتَادَةَ عَلَى غَيْرِ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ بِهِمْ مُمِدًّا لِأَهْلِ مُؤْتَةَ عِنْدَمَا بَلَغَهُ قَتْلُ الْأُمَرَاءِ: وَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا فِيهِ مُعْجِزَاتٌ، وَآيَاتٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ إِعْلَامُهُمْ أَنَّهُمْ يَفْقِدُونَ الْمَاءَ فِي غَدٍ. وَذَكَرَ حَدِيثَ الْمِيضَأَةِ، قَالَ: وَالْقَوْمُ زُهَاءُ ثَلَاثِمِائَةٍ. وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي قَتَادَةَ: «احْفَظْ عَلَيَّ مِيضَأَتَكَ، فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَهَا نَبَأٌ.». وَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ حِينَ أَصَابَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ عَطَشٌ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِمْ، فَوَجَّهَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَعْلَمَهُمَا أَنَّهُمَا يَجِدَانِ امْرَأَةً بِمَكَانِ كَذَا مَعَهَا بَعِيرٌ عَلَيْهِ مَزَادَتَانِ... الْحَدِيثَ، فَوَجَدَاهَا، وَأَتَيَا بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ فِي إِنَاءٍ مِنْ مَزَادَتَيْهَا، وَقَالَ فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ أَعَادَ الْمَاءَ فِي الْمَزَادَتَيْنِ، ثُمَّ فَتَحَتْ عَزَالَيْهِمَا، وَأَمَرَ النَّاسَ فَمَلَئُوا أَسْقِيَتَهُمْ حَتَّى لَمْ يَدَعُوا شَيْئًا إِلَّا مَلَئُوهُ. قَالَ عِمْرَانُ: وَتَخَيَّلَ إِلَيَّ أَنَّهُمَا لَمْ تَزْدَادَا إِلَّا امْتِلَاءً، ثُمَّ أَمَرَ فَجَمَعَ لِلْمَرْأَةِ مِنَ الْأَزْوَادِ حَتَّى مَلَأَ ثَوْبَهَا. وَقَالَ: «اذْهَبِي، فَإِنَّا لَمْ نَأْخُذْ مِنْ مَائِكِ شَيْئًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ سَقَانَا..». الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ مِنْ وُضُوءٍ؟» فَجَاءَ رَجُلٌ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا نُطْفَةٌ فَأَفْرَغَهَا فِي قَدَحٍ، فَتَوَضَّأْنَا كُلُّنَا نُدَغْفِقُهُ دَغْفَقَةً أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً.. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ: وَذَكَرَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْعَطَشِ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بِعِيرَهُ، فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ، فَرَغِبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّعَاءِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى قَالَتِ السَّمَاءُ فَانْسَكَبَتْ، فَمَلَئُوا مَا مَعَهُمْ مِنْ آنِيَةٍ، وَلَمْ تُجَاوِزِ الْعَسْكَرَ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ رَدِيفُهُ بِذِي الْمَجَازِ: عَطِشْتُ، وَلَيْسَ عِنْدِي مَاءٌ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَرَبَ بِقَدَمِهِ الْأَرْضَ، فَخَرَجَ الْمَاءُ، فَقَالَ: «اشْرَبْ». وَالْحَدِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ، وَمِنْهُ الْإِجَابَةُ بِدُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَمَا جَانَسَهُ.
[حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ - رَحِمَهُ اللَّهُ-، حَدَّثَنَا الْعُذْرِيُّ، حَدَّثَنَا الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ]، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَطْعِمُهُ، فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسْقِ شَعِيرٍ، فَمَا زَالَ يَأْكُلُ مِنْهُ، وَامْرَأَتُهُ، وَضَيْفُهُ حَتَّى كَالَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ، وَلَقَامَ بِكُمْ». وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي طَلْحَةَ الْمَشْهُورُ ، وَإِطْعَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِينَ أَوْ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ أَقْرَاصٍ مِنْ شَعِيرٍ جَاءَ بِهَا أَنَسٌ تَحْتَ يَدِهِ، أَيْ إِبِطِهِ، فَأَمَرَ بِهَا فَفُتَّتْ، وَقَالَ فِيهِمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي إِطْعَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَلْفَ رَجُلٍ مِنْ صَاعِ شَعِيرٍ، وَعَنَاقٍ. وَقَالَ جَابِرٌ: فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ، وَانْحَرَفُوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغَطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَقَ فِي الْعَجِينِ، وَالْبُرْمَةِ، وَبَارَكَ. رَوَاهُ عَنْ جَابِرٍ سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، وَأَيْمَنُ. وَعَنْ ثَابِتٍ مِثْلُهُ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَامْرَأَتِهِ، وَلَمْ يُسَمِّهِمَا، قَالَ: وَجِيءَ بِمِثْلِ الْكَفِّ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْسُطُهَا فِي الْإِنَاءِ، وَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ مَنْ فِي الْبَيْتِ، وَالْحُجْرَةِ، وَالدَّارِ، وَكَانَ ذَلِكَ قَدِ امْتَلَأَ مِمَّنْ قَدِمَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ، وَبَقِيَ بَعْدَ مَا شَبِعُوا مِثْلُ مَا كَانَ فِي الْإِنَاءِ. وَحَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ صَنَعَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِأَبِي بَكْرٍ مِنَ الطَّعَامِ زُهَاءَ مَا يَكْفِيهِمَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادْعُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَشْرَافِ الْأَنْصَارِ فَدَعَاهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوا، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ سِتِّينَ فَكَانَ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ سَبْعِينَ فَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوا، وَمَا خَرَجَ مِنْهُمْ أَحَدٌ حَتَّى أَسْلَمَ، وَبَايَعَ». قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَأَكَلَ مِنْ طَعَامِي مِائَةٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا. وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ : أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَصْعَةٍ فِيهَا لَحْمٌ، فَتَعَاقَبُوهَا مِنْ غَدْوَةٍ حَتَّى اللَّيْلِ، يَقُومُ قَوْمٌ، وَيَقْعُدُ آخَرُونَ. وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةً، وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عُجِنَ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ، وَصُنِعَتْ شَاةٌ، فَشُوِيَ سَوَادُ بَطْنِهَا قَالَ: وَايْمُ اللَّهِ، مَا مِنَ الثَّلَاثِينَ وَمِائَةٍ إِلَّا وَقَدْ حَزَّ لَهُ حَزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا، ثُمَّ جَعَلَ مِنَّا قَصْعَتَيْنِ، فَأَكَلْنَا أَجْمَعُونَ، وَفَضَلَ فِي الْقَصْعَتَيْنِ، فَحَمَلْتُهُ عَلَى الْبَعِيرِ. وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، وَمِثْلُهُ لِسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فَذَكَرُوا مَخْمَصَةً أَصَابَتِ النَّاسَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَدَعَا بِبَقِيَّةِ الْأَزْوَادِ، فَجَاءَ الرَّجُلُ بِالْحَثْيَةِ مِنَ الطَّعَامِ، وَفَوْقَ ذَلِكَ، وَأَعْلَاهُمُ الَّذِي أَتَى بِالصَّاعِ مِنَ التَّمْرِ، فَجَمَعَهُ عَلَى نِطْعٍ. قَالَ سَلَمَةُ: فَحَزَرْتُهُ كَرَبْضَةِ الْعَنْزِ، ثُمَّ دَعَا النَّاسَ بِأَوْعِيَتِهِمْ، فَمَا بَقِيَ فِي الْجَيْشِ وِعَاءٌ إِلَّا مَلَئُوهُ، وَبَقِيَ مِنْهُ قَدْرُ مَا جَعَلَ وَأَكْثَرُ، وَلَوْ وَرَدَهُ أَهْلُ الْأَرْضِ لَكَفَاهُمْ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَمَرَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَدْعُوَ لَهُ أَهْلَ الصُّفَّةِ، فَتَتَبَّعْتُهُمْ حَتَّى جَمَعْتُهُمْ، فَوُضِعَتْ بَيْنَ أَيْدِينَا صَفْحَةٌ، فَأَكَلْنَا مَا شِئْنَا، وَفَرَغْنَا، وَهِيَ مِثْلُهَا حِينَ وُضِعَتْ إِلَّا أَنَّ فِيهَا أَثَرَ الْأَصَابِعِ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبَ، وَكَانُوا أَرْبَعِينَ، مِنْهُمْ قَوْمٌ يَأْكُلُونَ الْجَذَعَةَ، وَيَشْرَبُونَ الْفَرَقَ، فَصَنَعَ لَهُمْ مُدًّا مِنْ طَعَامٍ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، وَبَقِيَ كَمَا هُوَ، ثُمَّ دَعَا بِعُسٍّ، فَشَرِبُوا حَتَّى رَوَوْا، وَبَقِيَ كَأَنَّهُ لَمْ يُشْرَبْ مِنْهُ. وَقَالَ أَنَسٌ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ابْتَنَى بِزَيْنَبَ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ قَوْمًا سَمَّاهُمْ، وَكُلَّ مَنْ لَقِيتُ، حَتَّى امْتَلَأَ الْبَيْتُ، وَالْحُجْرَةُ، وَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ تَوْرًا، فِيهِ قَدْرُ مُدٍّ مِنْ تَمْرٍ جَعَلَ حَيْسًا، فَوَضَعَهُ قُدَّامَهُ، وَغَمَسَ ثَلَاثَ أَصَابِعِهِ، وَجَعَلَ الْقَوْمُ يَتَغَدَّوْنَ، وَيَخْرُجُونَ، وَبَقِيَ التَّوْرُ نَحْوًا مِمَّا كَانَ وَكَانَ الْقَوْمُ أَحَدًا، أَوِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَوْ مِثْلِهَا، إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَنَّهُمْ أَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا. وَقَالَ لِي: «ارْفَعْ»، فَلَا أَدْرِي حِينَ وُضِعَتْ كَانَتْ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رُفِعَتْ. وَفِي حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ فَاطِمَةَ طَبَخَتْ قِدْرًا لِغَدَائِهِمَا، وَوَجَّهَتْ عَلِيًّا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتَغَدَّى مَعَهُمَا، فَأَمَرَ فَغَرَفَتْ مِنْهَا لِجَمِيعِ نِسَائِهِ صَفْحَةً صَفْحَةً، ثُمَّ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِعَلِيٍّ، ثُمَّ لَهَا، ثُمَّ رَفَعَتِ الْقِدْرَ، وَإِنَّهَا لَتَفِيضُ، قَالَ: فَأَكَلْنَا مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَرَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يُزَوِّدَ أَرْبَعَمِائَةِ رَاكِبٍ مِنْ أَحْمَسَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هِيَ إِلَّا أَصْوُعٌ. قَالَ: اذْهَبْ، فَذَهَبَ، فَزَوَّدَهُمْ مِنْهُ، وَكَانَ قَدْرَ الْفَصِيلِ الرَّابِضِ مِنَ التَّمْرِ، وَبَقِيَ بِحَالِهِ. مِنْ رِوَايَةِ دُكَيْنٍ الْأَحْمَسِيِّ، وَمِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ. وَمِثْلُهُ مِنْ رِوَايَةِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ الْخَبَرُ بِعَيْنِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعُمِائَةِ رَاكِبٍ مِنْ مُزَيْنَةَ. وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي دَيْنِ أَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَدْ كَانَ بَذَلَ لِغُرَمَاءِ أَبِيهِ أَصْلَ مَالِهِ، فَلَمْ يَقْبَلُوهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ثَمَرِهَا سَنَتَيْنِ كَفَافُ دَيْنِهِمْ، فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ بِجَدِّهَا، وَجَعْلِهَا بَيَادِرَ فِي أُصُولِهَا، فَمَشَى فِيهَا، وَدَعَا، فَأَوْفَى مِنْهُ جَابِرٌ غُرَمَاءَ أَبِيهِ، وَفَضَلَ مِثْلُ مَا كَانُوا يَجِدُونَ كُلَّ سَنَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ مِثْلُ مَا أَعْطَاهُمْ، قَالَ: وَكَانَ الْغُرَمَاءُ يَهُودَ، فَعَجِبُوا مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَصَابَ النَّاسَ مَخْمَصَةٌ. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ مِنْ شَيْءٍ» قُلْتُ: نَعَمْ، شَيْءٌ مِنَ التَّمْرِ فِي الْمِزْوَدِ. قَالَ: «فَأْتِنِي بِهِ» فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَأَخْرَجَ قَبْضَةً، فَبَسَطَهَا، وَدَعَا بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ: «ادْعُ عَشَرَةً» فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ عَشَرَةً كَذَلِكَ، حَتَّى أَطْعَمَ الْجَيْشَ كُلَّهُمْ، وَشَبِعُوا. قَالَ: «خُذْ مَا جِئْتَ بِهِ، وَأَدْخِلْ يَدَكَ، وَاقْبِضْ مِنْهُ، وَلَا تَكُبَّهُ»، فَقَبَضْتُ عَلَى أَكْثَرِ مِمَّا جِئْتُ بِهِ، فَأَكَلْتُ مِنْهُ، وَأَطْعَمْتُ حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، إِلَى أَنْ قُتِلَ عُثْمَانُ فَانْتُهِبَ مِنِّي، فَذَهَبَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَدْ حَمَلْتُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ كَذَا، وَكَذَا مِنْ وَسْقٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَذُكِرَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْحِكَايَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَإِنَّ التَّمْرَ كَانَ بِضْعَ عَشْرَةَ تَمْرَةً. وَمِنْهُ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حِينَ أَصَابَهُ الْجُوعُ، فَاسْتَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ قَدْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ أَهْلَ الصُّفَّةِ. قَالَ: فَقُلْتُ: مَا هَذَا اللَّبَنُ فِيهِمْ؟ كُنْتُ أَحَقُّ أَنْ أُصِيبَ مِنْهُ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا. فَدَعَوْتُهُمْ. وَذَكَرَ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْقِيَهُمْ، فَجَعَلْتُ أُعْطِي الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَأْخُذُهُ الْآخَرُ حَتَّى رُوِيَ جَمِيعُهُمْ. قَالَ: فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَدَحَ، وَقَالَ: «بَقِيتُ أَنَا، وَأَنْتَ، اقْعُدْ فَاشْرَبْ فَشَرِبْتُ، ثُمَّ قَالَ: اشْرَبْ، وَمَا زَالَ يَقُولُهَا، وَأَشْرَبُ حَتَّى قُلْتُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا، فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَسَمَّى، وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ». وَفِي حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى أَنَّهُ أَجَزَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً، وَكَانَ عِيَالُ خَالِدٍ كَثِيرًا يَذْبَحُ الشَّاةَ فَلَا تُبِدُّ عِيَالَهُ عَظْمًا، وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّاةِ، وَجَعَلَ فَضْلَتَهَا فِي دَلْوِ خَالِدٍ، وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، فَنَثَرَ ذَلِكَ لِعِيَالِهِ، فَأَكَلُوا، وَأَفْضَلُوا. ذَكَرَ خَبَرَهُ الدُّولَابِيُّ. وَفِي حَدِيثِ الْآجُرِّيِّ فِي إِنْكَاحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ فَاطِمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِلَالًا بِقَصْعَةٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أَمْدَادٍ، أَوْ خَمْسَةٍ، وَيَذْبَحُ جَزُورًا لِوَلِيمَتِهَا قَالَ: فَأَتَيْتُهُ بِذَلِكَ فَطَعَنَ فِي رَأْسِهَا، ثُمَّ أَدْخَلَ النَّاسَ رُفْقَةً رُفْقَةً يَأْكُلُونَ مِنْهَا حَتَّى فَرَغُوا، وَبَقِيَتْ مِنْهَا فَضْلَةٌ، فَبَرَّكَ فِيهَا، وَأَمَرَ بِحَمْلِهَا إِلَى أَزْوَاجِهِ، وَقَالَ: «كُلْنَ، وَأَطْعِمْنَ مَنْ غَشِيَكُنَّ». وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَنَعَتْ أُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ حَيْسًا، فَجَعَلَتْهُ فِي تَوْرٍ، فَذَهَبْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «ضَعْهُ، وَادْعُ لِي فُلَانًا، وَفُلَانًا، وَمَنْ لَقِيتَ» فَدَعَوْتُهُمْ، وَلَمْ أَدَعْ أَحَدًا لَقِيتُهُ إِلَّا دَعَوْتُهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ حَتَّى مَلَئُوا الصُّفَّةَ، وَالْحُجْرَةَ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحَلَّقُوا عَشْرَةً عَشْرَةً»، وَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى الطَّعَامِ، فَدَعَا فِيهِ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا كُلُّهُمْ، فَقَالَ لِي: «ارْفَعْ» فَمَا أَدْرِي حِينَ وُضِعَتْ كَانَتْ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رُفِعَتْ. وَأَكْثَرُ أَحَادِيثِ هَذِهِ الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ فِي الصَّحِيحِ . وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَى مَعْنَى حَدِيثِ هَذَا الْفَصْلِ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ، رَوَاهُ عَنْهُمْ أَضْعَافُهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، ثُمَّ مِنْ لَا يَنْعَدُّ بَعْدَهُمْ. وَأَكْثَرُهَا فِي قِصَصٍ مَشْهُورَةٍ، وَمَجَامِعَ مَشْهُودَةٍ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَدُّثُ عَنْهَا إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا يَسْكُتُ الْحَاضِرُ لَهَا عَلَى مَا أَنْكَرَ مِنْهَا.
|